في محل صغير يتسع لأربع كراسي داخل أزقة حي الفاتح القديم بمدينة إسطنبول يقضي الشاب السوري عُبادة نداف (25 عامًا) وقته في قص شعر رؤوس الزبائن من أهالي الحي. قبل قدومه إلى تركيا في أغسطس 2013 عمل عُبادة حلاقًا في مسقط رأسه حلب، ثم مع اشتداد رحى الحرب في سوريا نزح إلى مدينة غازي عنتاب التركية، ومن هناك انتقل إلى إسطنبول، حيث فرص البحث عن عمل بين تلالها السبعة أكبر بكثير من غيرها من المدن.
خلال بحثه عن فرصة للعمل تعرف عبادة على صاحب محل حلاقة تركي داخل أزقة منطقة "قره جمرك" بحي الفاتح الذي يفضل شريحة واسعة من العرب الاستقرار فيه لطبعه المحافظ. ساعده صاحب المحل بتوفير فرصة عمل ليُعين نفسه بعد أن صرف الأموال التي ادخرها في سوريا خلال رحلته إلى إسطنبول، حيث لا تقدم الدولة التركية مساعدات عينية أو مالية للسوريين الذين يسكنون خارج المخيمات.(1)
على مدار سنة واحدة تعلم عبادة اللغة التركية خلال حديثه مع الزبائن الأتراك وساعده صاحب العمل في تطويرها دون الحاجة للذهاب إلى معهد لغة لتعلمها. يعيش عبادة حياة يصفها بالمستقرة، لاسيما بعد أن انضمت له عائلته من سوريا التي لحقت به بعد سوء الأحوال في مدينتهم وتعقدها. وعن الإقامة في حي الفاتح يقول عبادة: "الإقامة في حي الفاتح مريحة جدًا خاصة أنه حي ذو طابع محافظ يتناسب مع خلفية أسرتنا الدينية وقريب من عاداتنا وتقاليدنا، أسرتي كلها صارت هنا وجزء كبير من أقاربنا يعيشون في نفس الحي، فحياتنا الآن أشبه بمجتمع شبه متكامل".
وكغيرهم من السوريين يعمل عبادة وأخويه بعد الحصول على تصريح عمل خاص بالسوريين في تركيا يضمن لهم العمل بمثل الحد الأدنى من الأجور الذي يتقاضاه الأتراك. (2)
هذه العوامل جعلت عبادة يفكر بالاستقرار في إسطنبول وعدم التفكير بالهجرة إلى أوروبا، فما حصل عليه هنا يعتبره أهم من الامتيازات التي سيحصل عليها في حال لجوئه إلى القارة العجوز.
ليس كل من يلجأ إلى إسطنبول حاله كحال عبادة. فبالرغم من أنها ثاني مدينة تركية من حيث أعداد اللاجئين السوريين والعرب، إلا أنها ليست سوى ممر مؤقت باتجاه "الحلم الأوروبي" بالنسبة لبعضهم.(3)
تختلف قصص اللاجئين في التفاصيل وإن تشابهت في الظروف، يبحث كل واحد منهم عن رزقه بين أزقة المدينة ويتطلع لمستقبله خارج أسوارها.
لا يَمل من محاولات التهريب
الشاب الفلسطيني عمر الناقة (24 عاماً) هو أحد هؤلاء الذين لم يجدوا في اسطنبول ضالتهم. بدون ملل أو يأس يبحث عمر عن طريقة أخرى لدخول أوروبا بعد أن حاول عبور الحدود بين تركيا واليونان ثلاث مرات متواصلة خلال أقل من ثلاثة شهور باءت كلها بالفشل، تعرض خلالها للسجن والضرب في السجون التي تضعها السلطات اليونانية على الحدود مع تركيا.
وعن عدم استقراره في إسطنبول يقول عمر: "هنا لا توجد فرصة جيّدة للعمل، والحياة غالية بشكل لا يحتمل، فراتب العمل لأشهر متواصلة لا يكفي تكاليف الإقامة السياحية أو إيجار المنزل". ويتابع عمر: "في إسطنبول لا مجال أيضًا لتوفير النقود ومساعدة الأهل في غزة، لذلك التوجه لأوروبا هو الحل الأمثل بالنسبة لي، لكن هذه المرة سأحاول الذهاب بطريقة أخرى أكثر أمنا".
عمر الذي كان يعمل موزعًا للمشروبات الغازية على المحلات التجارية في قطاع غزة قدم لإسطنبول بعد حصوله على تأشيرة سياحية، وخاض في طريقه إليها عذاب الترحيل عبر معبر رفح البري مع مصر.
ومنذ اليوم الأول لوصوله إلى اسطنبول، يعكف عمر على التواصل مع المهربين في المدينة، الذين ينقلون الشباب الراغب في الهجرة إلى الأراضي اليونانية في رحلة صعبة قد تحتاج أيام مقابل مبلغ يزيد أو ينقص قليلاً عن 1800 دولار أمريكي تُدفع حال نجاحهم في اجتياز الحدود.
يرفض عمر العودة إلى غزة التي يصفها بالقبر مهما ساءت به الظروف ويضيف: "أخي الأكبر في أوروبا منذ 13 عاماً ووضعه الآن مستقر، أسعى لأن أكون مثله بعد كل هذه المتاعب".
يذكر أن المئات من سكان قطاع غزة قصدوا تركيا السنوات الثلاث الماضية هربًا من الحصار والحروب المتتالية، إذ يأتي جزء منهم للدراسة بعد الحصول على منحة دراسية، وجزء آخر يأتيها هربًا من واقع غير متضح المعالم إلى مستقبل مجهول. وكثير منهم يعتبر إسطنبول محطة لملاقاة الأهالي الذين فرقتهم عنهم سنوات الحصار، ففي حال كنت غزّيًا متغرباً في إحدى دول أوروبا أو الخليج وتريد لقاء أهلك، إسطنبول هي وجهتك، لسهولة استصدار التأشيرة مقارنة بتأشيرة أوروبا.
لجوء بانتظار اللجوء
اعتبار اسطنبول محطة نحو الحلم الأوروبي ليس توجها فلسطينيًا أو سوريًا فحسب، بل شأن عربي اجتمع عليه منكوبو البلاد العربية ومضطهدوها. الصحافي المصري محمد علي حسن واحد من هؤلاء الذين يحاولون البحث عن وطن بديل بعدما ضاقت بهم أوطانهم.
اضطر محمد للخروج من مصر إلى المغرب بعد قضاء عام كامل (ديسمبر 2015- ديسمبر 2016) داخل السجون المصرية، بتهمة "نشر الأخبار الكاذبة والتحريض على الجيش والشرطة" (3)خلال عمله محررًا في موقع قناة "مصر الآن" المعارضة. لكن خوفه من إعادة المغرب تسليمه للسلطات المصرية جعله يترك المغرب متجهًا إلى السودان حيث لا يتطلب منه الحصول على تأشيرة سفر. كان وقتها قد تبقى أقل من سنة ونصف لانتهاء صلاحية جواز سفره، الأمر الذي جعله يسرع في تقديم طلب لمكتب الأمم المتحدة للحصول على الحماية الدولية بصفته معرض للخطر ومعتقل سابق، لكن سوء الأحوال في السودان جعله يتقدم بحجز مقعد دراسي في جزيرة قبرص الشمالية كي يتمكن بعدها من الحصول بسهولة على التأشيرة التركية.
بعد وصول محمد إلى تركيا في أكتوبر 2016 تقدم بطلب حماية دولية في مكتب الأمم المتحدة حصل بعدها على إقامة إنسانية، ويسكن الآن مؤقتًا في إسطنبول بانتظار موعد المقابلة الثانية المقررة مطلع العام القادم ليتم التأكد من بياناته، حيث يتم فرزه على إحدى الدول المستعدة لاستقبال اللاجئين عبر الأمم المتحدة.
كان بإمكان محمد عبور البحر من المغرب باتجاه إسبانيا أو من تركيا باتجاه اليونان، لكنه يفضل الطرق القانونية ويقول: "تعبت من المخاطرة والمماطلة والسفر بين الدول وأبحث عن الاستقرار بمتاعب ومخاطرة أقل، طلب اللجوء عن طريق الأمم المتحدة هو أفضل الطرق القانونية ومضمونة حتى نهايتها".
بحسب اتفاقية جنيف عام 1951 يوجد نوعان للحماية التي تمنح للاجئين، حماية مؤقتة كما الحال في تركيا وحماية دولية كما معظم دول أوروبا. أما بالنسبة للحماية المؤقتة فإنها تمنح صاحبها ميزات كحق التعليم المجاني والرعاية الصحية وتوفير العلاج مجانًا وتسجيل المواليد والزواج والطلاق وغيرها. أصدرها البرلمان التركي في أبريل/نيسان 2013، وأُقُرّت تفاصيلها بقرار مجلس الوزراء التركي في أكتوبر/تشرين أول 2014.
أما الحماية الدولية التي تمنحها معظم دول أوروبا فهي تمنح حق اللجوء الكامل للمهاجرين مما يمكنهم من الحصول على إقامة دائمة وحق العمل في هذه الدولة بعد تعلم اللغة والتأكد من سلطات الدولة المستضيفة أن اللاجئ اندمج كفاية في المجتمع الجديد، الأمر الذي يحتاج إلى سنوات، في أغلب الأحيان.
-
لم يكن هناك مساعدات للاجئين خارج المخيمات وقتها http://bit.ly/2lMiPY0
-
تصريح عمل خاص بمن هم تحت بند الحماية المؤقتة http://bit.ly/2mBYCn8
-
اسطنبول ثاني أكبر مدينة في اعداد السوريين http://bit.ly/2lLV7v9
-
محمد علي حسن http://bit.ly/2lXuPbb